الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإيمان صاحب القبائح كقوة المريض على حسب قوة مرضه وضعفه وهذه الأمور الثلاثة وهي صون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان هي أرفع من باعث العامة على الورع لأن صاحبها أرفع همة لأنه عامل على تزكية نفسه وصونها وتأهيلها للوصول إلى ربها فهو يصونها عما يشينها عنده ويحجبها عنه ويصون حسناته عما يسقطها ويضعها لأنه يسير بها إلى ربه ويطلب بها رضاه ويصون إيمانه بربه: من حبه له وتوحيده ومعرفته به ومراقبته إياه عما يطفىء نوره ويذهب بهجته ويوهن قوته قال الشيخ وهذه الثلاث الصفات: هي في الدرجة الأولى من ورع المريدين.يعني أن للمريدين درجتين أخريين من الورع فوق هذه ثم ذكرهما فقال: الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به إبقاء على الصيانة والتقوى وصعودا عن الدناءة وتخلصاعن اقتحام الحدود.يقول: إن من صعد عن الدرجة الأولى إلى هذه الدرجة من الورع يترك كثيرا مما لا بأس به من المباح إبقاء على صيانته وخوفا عليها أن يتكدر صفوها ويطفأ نورها فإن كثيرا من المباح يكدر صفو الصيانة ويذهب بهجتها ويطفىء نورها ويخلق حسنها وبهجتها وقال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة أو نحو هذا من الكلام فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام فإن بينهما برزخا كما تقدم فتركه لصاحب هذه الدرجة كالمتعين الذي لابد منه لمنافاته لدرجته والفرق بين صاحب الدرجة الأولى وصاحب هذه: أن ذلك يسعى في تحصيل الصيانة وهذا يسعى في حفظ صفوها أن يتكدر ونورها أن يطفأ ويذهب وهو معنى قوله: إبقاء على الصيانة.وأما الصعود عن الدناءة: فهو الرفع عن طرقاتها وأفعالها.وأما التخلص عن اقتحام الحدود فالحدود: هي النهايات وهي مقاطع الحلال والحرام فحيث ينقطع وينتهي فذلك حده فمن اقتحمه وقع في المعصية وقد نهى الله تعالى عن تعدي حدوده وعن قربانها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة] وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقره: 229] فإن الحدود يراد بها أواخر الحلال وحيث نهى عن القربان فالحدود هناك: أوائل الحرام يقول سبحانه: لا تتعدوا ما أبحت لكم ولا تقربوا ما حرمت عليكم فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه وهو اقتحام الحدود قال: الدرجة الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق وعارض يعارض حال الجمع الفرق بين شتات الوقت والتعلق بالتفرق: كالفرق بين السبب والمسبب والنفي والإثبات فإنه يتشتت وقته فلا يجد بدا من التعلق بما سوى مطلوبه الحق إذ لا تعطيل في النفس ولا في الإرادة فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه ومن لم يكن عمله لله فلابد أن يعمل لغيره وقد تقدم هذا فالمخلص يصونه الله بعبادته وحده وإرادة وجهه وخشيته وحده ورجائه وحده والطلب منه والذل منه والافتقار إليه وحده وإنما كان هذا أعلى من الدرجة الثانية: لأن أربابها اشتغلوا بحفظ الصيانة من الكدر وملاحظتها وذلك عند أهل الدرجة الثالثة: تفرق عن الحق واشتغال عن مراقبته بحال نفوسهم فأدب أهل هذه أدب حضور وأدب أولئك أدب غيبة وأما الورع عن كل حال يعارض حال الجمع فمعناه: أن يستغرق العبد شهود فنائه في التوحيد وجمعيته على الله تعالى فيه عن كل حال يعارض هذا الفناء والجمعية وهذا عند الشيخ لما كان هو الغاية التي ليس بعدها مطلب: جعل كل حال يعارضها ويقطع عنها ناقصا بالنسبة إليها فالرغبة عنه غير ورع صاحبها وقد عرفت ما فيه وأن فوق هذا مقام أرفع منه وأعلى وهو الورع عن كل حظ يزاحم مراده منك ولو كان الحظ فناءا وجميعة أو كائنا ما كان وبينا أن الفناء والجمعية حظ العبد وأن حق الرب وراء ذلك وهو البقاء بمراده فرقا وجمعا به وله وعلى هذا فالورع الخاص: الورع عن كل حال يعارض حال القيام بالأمر والبقاء به فرقا وجمعا والله المستعان.فصل الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان باللقاء:تثمر الزهد والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء والقناعة تثمر الرضاء والذكر يثمر حياة القلب والإيمان بالقدر يثمر التوكل ودوام تأمل الأسماء والصفات يثمر المعرفة والورع يثمر الزهد أيضا والتوبة تثمر المحبة أيضا ودوام الذكر يثمرها والرضا يثمر الشكر والعزيمة والصبر يثمران جميع الأحوال والمقامات والإخلاص والصدق كل منهما يثمر الآخر ويقتضيه والمعرفة تثمر الخلق والفكر يثمر العزيمة والمراقبة تثمر عمارة الوقت وحفظ الأيام والحياء والخشية والإنابة وإماتة النفس وإذلالها وكسرها: يوجب حياة القلب وعزه وجبره ومعرفة النفس ومقتها يوجب الحياء من الله عز وجل واستكثار ما منه واستقلال ما منك من الطاعات ومحو أثر الدعوى من القلب واللسان وصحة البصيرة تثمر اليقين وحسن التأمل لما ترى تسمع من الآيات المشهودة والمتلوة يثمر صحة البصيرة وملاك ذلك كله: أمران أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته تنزلها على داء قلبك فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش ولا فيها آفة من آفات سائر الطريق ألبتة وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها والله المستعان. اهـ.
|